امرأة فاتتها الصلاة في السفر فهل عليها قضاء ؟
السؤال :
امرأة في الثالثة و الثلاثين من عمرها تقول :
إني أعمل في وظيفة حكوميّة ، و كلفت بالسفر أثناء الدورة الشهرية فلم استطع الصلاة بسببها ، إلى أن وجبت عليّ الطهارة و انقطع الطمث ، لكني أصبت بعد ذلك ببرد شديد في صدري لم استطع معه التطهر إلا بعد الموعد الواجب بيومين .
فالرجاء طمأنتي هل علي من وزر فيما فعلت ، و هل يجب علي قضاء صلاة اليومين التي لم أصلّها في وقتها ؟ أم أن هناك كفارة أؤديها ؟
و لكم مني جزيل الشكر ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
ثمة ثلاث مسائل تتعلّق بما ورد في سؤالك ، و إليك بيان حكم كلٍّ منها بالتفصيل :
المسألة الأولى ، و تتعلّق بحكم سفر المرأة بدون محرم :
و من المقرر عند أهل العلم أن السفر لا يحلّ للمرأة إلاّ مع ذي محرَم ، فقد روى الشيخان و أصحاب السنن إلا النسائي و أحمد عَنِ عبد الله بنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : « لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ » .
و روى البخاري و الترمذي و أحمد عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه أنّ النَّبِىِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : « لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ إِلاَّ وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ » .
و قد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنّه يحرم عليها الخروج بغير محرم في كل سفر طويلاً كان أو قصيراً .
و أباح الحنفيّة لها الخروج إلى ما دون مسافة القصر بغير محرم .
و على كلا القولين فإنّه يحرم على المرأة أن تسافر أكثر من اثنين و ثمانين كيلو متراً ( عند من يرى التحديد بالمسافة ) و أن تشرع فيما يعتبر سفراً في عُرف الناس عادةً ( باعتبار العادةِ محكّمةً كما في القاعدة الفقهيّة ) .
و من فرّقَ من المعاصرين بين سَفَرٍ و سفر ، و ذهبَ إلى عدم اشتراط المحرَم في السفر بوسائل النقل المعاصرة لما يكتنفُها من الأمان ، محجوج بعموم الدليل الوارد في التحريم ، و لا حجّة في قول أحدٍ ما لم يُقِم عليه دليلاً من الكتاب أو السنّة .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : ( لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى عِلمٍ يُخالف في أن الله فرض اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم و التسليم لحكمه ، و أن الله عزّ و جل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، و أنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، و أنّ ما سواهما تبع لهما ، و أن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد ) [ الأم : 7 / 273 ] .
المسألة الثانية في وجوب رفع الحدث الأكبر عن المحدث على الفور متى أمكنه ذلك ، فإذا وجب فلا يسقطه عذر ، و لكنه يخفف بسحب القدرة ، تيسيراً على الأمة و رفعاً للحرج و المشقة عن العباد .
و حيث إن السائلة لم تكن قادرةً على استعمال الماء في الغسل الواجب للطهارة بسبب البرد المؤذي لصحتها ، فإنها معذورة في تركه ، و لكن يلزمها أن تلجأ إلى التيمم لأداء الصلوات الواجبة في أوقاتها ، ثم تغتسل حينما يزول المانع ؛ مرضاً كان أو غيره ، و لا تقضي شيئاً مما صلته متيممة قبل الاغتسال ؛ لأن التيمم يبيح العبادة و إن لم يرفع الحدث .
روى الشيخان عن عمار بن ياسر قال بعثني النبي صلى الله عليه و سلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرَّغُ الدابة ثم أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال : إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين ، و ظاهر كفيه ووجهه و هذا اللفظ لمسلم ، و في رواية للبخاري و ضرب بكفيه الأرض نفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه و كفيه .
و الشاهد من هذا الحديث الشريف في أن النبي صلى الله عليه وسلم علم عماراً التيمم عند وجود العذر المانع من استعمال الماء ، و تعميم البدن به في الغسل من الحدث الأكبر ( جنابةً أو حيضاً أو نفاساً ) .
و كان الواجب على الأخت السائلة أداء الصلوات في أوقاتها مع التيمم لكل صلاة ، ريثما يزول العذر المانع من الغسل ، و حيث إنها لم تقم بما وجب عليها ؛ فهي آثمة إن كانت على علم بالحكم الشرعي و فرطت فيه ، أو معذورة إن لم تكن تعلمه .
المسألة الثالثة : المعروف من مذهبنا في مسألة ترك الصلاة و قضاء الفوائت ثلاث صور :
الصورة الأولى : تارك الصلاة بالكلية كافر خارج من ملة الإسلام ، يستتاب و يدعى إلى الإسلام من جديد ، فإن تاب ورجع فتوبته تجب ما قبلها ، و ليس عليه قضاء شيء مما فاته لأن أحكام الإسلام لم تكن سارية عليه حال كفره بترك الصلاة .
الصورة الثانية : من أكثر من ترك الصلاة ، و لكنها لم يتركها جُملةً ، ثم تاب و ندم و استقام ، و عزم على أداء الصلاة بقية عمره ، فهو مقبول التوبة إن شاء الله ، و للعلماء في إيجاب قضاء الصلوات الفوائد عليه قولان :
أولهما : أنه يجب عليه القضاء على التراخي بحيث يقضي مع كل فرضٍ حاضرٍ فرضاً فائتاً أو أكثر ، بحسب طاقته و قدرته .
و ثانيهما أن التوبه تكفيه ، و عليه الإكثار من النوافل بالليل و النهار ليجبر بها ما كان من تقصيره في أداء الفرائض المكتوبه مع قدرته على أدائها ، و هذا رأي وجيه ، نرجّحه لما ثبت من أن النافلة تجبر النقص في الفريضة ، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاتُهُ ؛ فإن صلحت فقد أفلَح و أنجَح ، و إن فسَدَت فقد خاب و خسر ، فإن انتقص من فريضته شيءٌ قال الرب عز و جل : انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك ) [ رواه أصحاب السنن غير أبي داود بإسناد صحيح ] .
الصورة الثالثة : أن يكون الأصل في العبد المكلف الحفاظ على الصلاة ، و عدم التفريط أو التقصير في أداء شيئ منها من غير عذر ، و لكن تفوته – أحياناً – الصلاة و الصلاتان ، و نحو ذلك من الصلوات المعدودة ، و تتفرع هذه الصورة بحسب السبب الباعث على ترك الصلاة إلى فرعين :
الفرع الأول : أن يكون الترك بسبب النوم أو النسيان ، فلا يأثم من ترك الصلاة لهذين السببين ؛ أحدهما أو كلاهما ، و لكن عليه أداؤها متى زال العذر ، ففي الصحيحين و سنن ابن ماجة و الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ) .
و الواجب المبادرة إلى صلاتها عقب التذكر مباشرةً ، حتى لو كان ذلك في أوقات النهي عن الصلاة على المعتمد .
قال أبو عيسى الترمذي : و يروى عن علي ابن أبي طالب أنه قال في الرجل ينسى الصلاة ؛ قال : يصليها متى ما ذكرها في وقت أو في غير وقت ، و هو قول الشافعي و أحمد بن حنبل و إسحق . و يروى عن أبي بكرة أنه نام عن صلاة العصر فاستيقظ عند غروب الشمس فلم يصل حتى غربت الشمس و قد ذهب قوم من أهل الكوفة إلى هذا و أما أصحابنا فذهبوا إلى قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه .اهـ .
و عن أبي جحيفة رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفره الذي ناموا فيه حتى طلعت الشمس ، فقال : إنكم كنتم أمواتا فرد الله إليكم أرواحكم ، فمن نام عن صلاة ؛ فليصلها إذا اسيقظ ، ومن نسي صلاة ؛ فليصل إذا ذكر ) . [ رواه أبو يعلى و الطبراني في الكبير ، و صححه الألباني في الصحيحة : 396 ] وزاد في رواية : ( لا كفارة لها إلا ذلك ) .
قلتُ : لا خلاف بين أهل العلم في أن على النائم إذا استيقظ و الناسي إذا ذكر أداء ما فاتهما من الصلاة بسبب النسيان أو النوم ، و ان اختلف بعض العلماء في اعتبار ذلك أداءً أو قضاءً فالخلاف لفظي لا مشاحة فيه ، و لا أثر له في الحكم ، و لكن الخلاف وارد فيما سيأتي و هو :
الفرع الثاني : أن يكون ترك الصلاة المكتوبة عمداً بسبب التفريط و نحوه ، و على من هذا حاله القضاء أيضاً ؛ أسوةً بالنائم و الناسي ، و قياساً لحكمه على حكمهما ، و إلى هذا ذهب جمهور العلماء ، و خلافاً للظاهرية ، فقد قال أبو محمد ابن حزم [ في المحلى ] : ( من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها فهذا لا يقدر على قضائها أبداً ، فيُكثِر من فعل الخير و صلاة التطوع ؛ ليثقل ميزانه يوم القيامة و ليتب و ليستغفر الله عز و جل ) .
و مذهب الجمهور أفسح في الرخصة و أرجح في الحجة و الدليل ، لذلك كان عليه العمل وبه الفتيا عندنا .
قال ابن عبد البر في الاستذكار : فإن قيل : فلم خصَّ النائم و الناسي بالذكر في قوله : من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها ، قيل : خصَّ النائم و الناسي ليرتفع التوهّم و الظنّ فيهما لرفع القلم في سقوط المأثم عنهما ، فأبان أنَّ سقوط المأثم عنهما غير مسقط لما لزمَهما من فرض الصلاة ، و أنها واجبة عليهما عند الذكر بها ؛ يقضيها كل واحد إذا ذكرها ، و لم يحتج إلى ذكر العامد معهما لأن العلة المتوهَّمة في النائم و الناسي ليست فيه و لا عذر له في ترك فرض ، و إذا كان النائم و الناسي و هما معذوران يقضيانها بعد خروج وقتها ، فالمتعمِّد أولى بأن لا يسقط عنه فرض الصلاة ، و قد شذَّ بعض أهل الظاهر، وأقدم على خلاف جمهور علماء المسلمين وسبيل المؤمنين، فقال: ليس على المتعمِّد في ترك الصلاة في وقتها بأن يأتي بها في غير وقتها لأنه غير نائم ولا ناس .اهـ .
و خلاصة الأمر أن على الأخت السائلة أن تبادر بقضاء ما فاتها من الصلوات ، فور التمكن ، و ليس لها أن تعدل عن القضاء إلى الإطعام للتكفير عن التقصير ، لأن ترك الصلاة لا مكفر له إلا التوبة الصادقة النصوح .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .